Saturday, September 22, 2012

طريق المطار




­­­طريق المطار...


رائحة السجائر التي تعبق بالمكان تملئ نفسه برغبة عارمة على الاستفراغ...كل شئ يدفع بي للهروب خارجا...لكن المخيف حقا كانت تلك العتمة المطلقة في نهاية البهو...قضبان من حديد رمادي تكاد تكون خفية في ذلك الظلام...رعب عميق تسرب من عيون سرب المكبلين إلى روح ذلك الصبي ابن الثمانية أعوام أثناء مسيرهم نحو ذلك الثقب الأسود المُغرِق في الشر...الصفعة التي هبطت على رقبة أحدهم من يد شرطي أحسست بوجعها في صدري على الأغلب قبل وصولها إلى هدفها المكشوف تماما...عشرات الندوب وآثار السكاكين على وجه وجسم الموقوف الدالّة على حياة في غاية الدناءة لم تشفع للشرطي صنيعه...كانت تلك المشاهدة الأولى لنظارة المحكمة في واحدة من المرات القليلة التي رافقت فيها والدي إلى عمله..

تجربتي مع الـ"بعث" ربما ليست شخصية بالوجه المباشر .. لكن كانت من القرب بما يكفي لأعدل عن أي فكرة للتوجه لسوريا ولو لزيارة ...

عمّي اسمه بشار للمفارقة البائسة ... أمضى 3 سنوات في جامعة دمشق كلية الحقوق متبعا سياسة الحيط الحيط ويا رب الستر تلاحقه قصص الطلاب الذين اختفوا في نهاية السبعينات من حرم الجامعة ولم يظهر لهم أثر .....  كان على وشك التخرج لولا أن استيقظ صباحا على فوهة كلاشنيكوف الأمن السياسي المصوبة تجاه رأسه خلال مداهمة للشقة التي كان يسكن فيها لا لسبب واضح حتى الان ... المهم أنه كان متوجها إلى عمان صبيحة اليوم التالي في أول سيارة سفريات ماسحا مستقبلا كاملا كان بانتظاره كخريج واحدة من أعتى كليات الحقوق في أرض الضاد ...

أبي خريج بيروت...أمضى جلّ دراسته أثناء الحرب الأهلية هناك...نحن نأتي من عائلة مؤمنة بسيطة .. ليست بالمتدينة مطلقا ولكن أبي أكد لي أنه تيقن من وجود الله مرتين..واحدة في بيروت عندما أخطأته رصاصة قناص استهدفت رأسه في قصه شرحها يطول..الثانية كانت على حدود دولة النظام الممانع أثناء عودته من بيروت بعد تأديته آخر امتحان في مسيرته الجامعية المؤلمة... كان ذلك بعد شهرين مباشرة من مجزرة حماة..الجريمة التي ارتكبها أبي كانت حَمْلهُ لمقرر "أحكام الأسرة في الإسلام" في حقيبة الملابس..ومناداته للعسكري بـ"يا أخي" اثناء النقاش حول سبب وجود الكتاب معه..كان ذلك كافيا لاتهام وإدانة أبي بالانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين..أبي كان سيكون الإخونجي الذي لم يصل لله ركعة في ذلك الوقت...تم تجهيزه لمرحلة التعذيب الأولي في المخفر الحدودي..الدولاب كان سيكون الوجبة الأولى..في لحظة يظهر ضابطٌ مشرقُ الوجهِ حسنُ الثيابِ هادئُ الصوتِ والهندامُ على غير عادةِ "حفرتلية" العسكر على الحدود..صفات ملائكية باختصار...أمَرَ باختصارٍ أن يطلق سراح أبي فورا..بعد أن كانت الجيب العسكرية تنتظر الأوامر لنقله إلى سجن في الطريق المتوجهة شرقا...إعداداً لتدمر...أبي منذ تلك اللحظة يؤمن بالله جدا...

ابن عمي .. اختفى ثماني سنوات بعد الاشتباه بكونه عنصرا للمخابرات الأردنية ... لم نعرف شيئا عنه حتى ظهر فجأة بعد العفو العام الذي أُصدر عندما تسلم "مقصوف الرقبة" رقبة الشعب المقهور ...وما زالت تجربة السجن تلاحقه في أحلامه على ما سمعت...

بالخلاص يا شباب أثارت في الكثير .. عن السجن والسجن الأكبر .. بالنسبة لي لم أدخل المخفر إلا مرتين في حياتي..مرة عندما أضعت هويتي والثانية عندما نجوت من حادث سير كاد يودي بحياتي لولا لطف الله ... هذه الأيام يبدو السجن أقرب وأقرب..أنا أعرف أن سجوننا هي عبارة عن فنادق من ذوات الخمس نجوم مقارنة بسجون جيراننا شمالا..لكن فكرة حبسي في مكان واحد وأنا "النيراني" الذي لا أطيق الجلوس في مكان واحد لبضع دقائق تدفعني نحو هاوية معنوية..لكن أحيانا أستطيع أن أرى في السجن الحقيقة الوحيدة في مجموع ال"تشذب" ومخلوطة الهراء "اكسترا" التي تحيط بنا..هو الزبدة وأصنص الحقيقة المجردة من مكياج رخيص يزين وجنتي الغول وأحمر شفاه يخفي نيوباً مستعدة لاقتطاع لحمنا بلا أي لحظة تردد...يقال أن يوسف الصدّيق كتب على باب السجن يوم أن خرج منه: هذا قبر الأحياء.

صديقي عبدالله محادين تم اعتقاله مؤخرا بتهمة أمنية كبرى قبل حفل خطوبته ببضعة أيام...مخطوبته هي أيضا من الحراك الشعبي ولعل ما يصبّرها على المصيبة أنها تعرف عبدالله تماما وتشاركه الهم الأكبر... لو كانت خطوبة عادية ما ظننت لها أن تستمر...فكرة ضياع سنوات خلف القضبان مرعبة جدا...ليست فقط للسجين ولكن لكل من يشاركه حياته.. هو قبر جماعي أكثر منه سجناً...ربما لهذا أحاول أن أدفع قدر الأمكان أي فكرة بالارتباط ما استطعت...على القليل حتى "يبان تاليها... 

طريق المطار تثير فيَّ الكثير من الشجون..قبل ثماني سنوات سافرت إلى الغرب، كانت طريق المطار بالنسبة لي درب الأحلام، كل محطة على الطريق كانت تمثل إشارة اقتراب نحو الأمل..مرج الحمام-جسر ناعور-المنتزه القومي، أما جسر مادبا كان بمثابة لحظة الحقيقة التي أعلن فيها كفري بكل ما ورائي...سافرت..بعد أيام قليلة عدت مضطرا..لكن ما أن وطئت المطار حتى قمت بما لم أتخيل القيام به مطلقا ... قبلت الأرض ... وقبلت الحارس الواقف على باب الطائرة .. أعلنت التوبة وتصالحت مع أرضي ...

صرت أكره طريق المطار..كلما غادر لي صديق أو ودّعتُ أخاً أحسست بشرايين قلبي تنتزع من مكانها مع اقلاع الطائرة...والصراخ داخلي أعلي بكثير من هدير محركها النفاث... لماذا نخسر كل هؤلاء؟

اليوم...وفي ظل كل ما أرى...صِرت أنظر إلى طريق المطار نظر المغشي عليه...الظاهر هو القدر المحتوم عليّ..عاجلا أم آجلا...ولا أدري إلى أين سيكون المفر -ان استطعت طبعا-! دبي؟جدة؟فانكوفر؟ ميونخ... الجويدة أم مقبرة الهاشمية؟؟ ربما وربما ولا أدري لكن المشكلة أن سجني الكبير يضيق شيئا فشيئا ولا أعلم إلى متى سأبقى واقفا ...

ما بين سوريا ... والبلد هنا .. قيد يثقل رقبتي ... وكلما أدرك أن ما يمكنني عمله لا يعدو عن كلمات أرميها هنا وهناك أُغرق في كآبتي .. وتقتلني كلمات أسمعها من البعض.."شو لازم نعمل لسوريا" ؟؟

قَصُّ الضفائر كانت وسيلة احتجاج قصوى عند نسائنا... لو كنت فتاة لقصصت جديلة شعري ووزعتها على كل المارين في شارع الجامعة أو على طريق الرمثا ليسشتعروا رجولتهم ... بالنسبة لي كـ"شاب" لا أجد ما أقدمه سوى بطانيات وثياب تغطي العريّ الذي أحس به أمام أي لاجئ ... حقيقة لا يسعني إلا أن أعتكف في زاوية البيت ...و أنتحب

          خاطرة كُتبت بعد قراءة "بالخلاص يا شباب" لياسين الحاج صالح