Wednesday, November 28, 2012

بنج موضعي


ضحكت طويلا عندما قرأت مقال النيويورك تايمز عن أزمة هبة تشرين في الأردن، الأمريكان حقيقة يعرفون كيف يقرأون الشارع وقت الأزمات، كيف يجيرون ما يحدث فيه لمصلحتهم...بل حتى كيف يزردعون أفكارا لا تخطر على بال الجن الأزرق.

خلال الهبة وكعادتي في محبة معايشة الحدث، شاركت في المسيرات التي كانت تحدث في عمان  وبالتحديد في جبل الحسين، دائما كان يفرقنا الدرك لنتجه نحو المخيم هربا من الاعتقال ولملمةً للصفوف. يوم الخميس قرر الشباب التوجه نحو بوابة الديوان الملكي من طريق شارع الأردن. كالعادة مضيت مع الجماعة التي استمرت تكبر وتكبر خلال المسير بين البيوت الفقيرة المنتشرة على عتبات القصر. طوال الطريق وطيلة أيام الهبة لم أسمع شخصيا أي هتاف للأمير حمزة ولم أشعر بأي توجه نحو الأمير كأمل قادم، حتى هتاف إسقاط النظام لو حللناه بما يتفق مع سايكولوجيا الجماهير لوجدنا بكل بساطة أن ما يُراد حقّا اسقاطه هو "نهج" أكثر من كونه "عرش".

المقال الصادم من النيويورك تايمز كان بمثابة قمة التشويه وتلبيس الحقائق لما يدور فعليا في الشارع، ويعطي مؤشرا خطيرا لخطة "ب" يتم تحضيرها خارجيا للتنفيذ أردنيا في حال ساءت الأمور. زاد على كل هذا سوءا مقال القدس العربي الذي تحدث فيه عن رسائل تطمينية من جماعة الاخوان المسلمين إلى الملكة رانيا حول مؤسسة ولاية العهد. أعتقد أن كل قصة الرسائل هي محض افتراء ومحاولة أخرى لزرع فكرة إشكالية ولاية العهد وخلق صراع على الفراغ بين الفئات السياسية الأردنية وشق ثوب المعارضة المهترئ أصلا.

عبر تاريخ المملكة ومنذ استلام الهاشميين للسلطة، لم يبدأ أي ملك عهده بشعبية واسعة ربما نستثني من هذا الملك طلال الذي كان مرغوبا من قبل الجماهير لمواقفه المناهضة للاستعمار والداعمة للقضايا العربية. باقي الملوك اكتسبوا شعبيتهم بمرور الوقت،  لم يكن الأردنيون يعرفون ملكهم الحالي وهو أمير ولم يكن له معشار الشعبية والاحترام الذي يكنه الأردنيون لشخصية من شاكلة الأمير الحسن بن طلال، ولكنّ الأردنيين نقلوا عادة الحب بعد الزواج من نطاق الزوجية إلى نطاق علاقة الحاكم والمحكوم، ولم تشكل هوية الحاكم لهم أي إشكال، ربما يشعرون بين الحين والآخر أن "س" ربما يكون أصلح من "ص" لكنهم وبعادتهم يفضلون ال"ستيرة" ومعايشة الواقع.

مرحلة ازدراع الأفكار هو ما يمكنني توصيفه للحالة الراهنة، ربما تكون مقالة النيويورك تايمز من التأثير على صناع القرار الأمريكيين بما يفوق كل ما تمت كتابته منذ بداية الربيع العربي بما يخص الشأن الأردني، بل حتى أن هذه المقالة ربما قامت بما لم تقم به الكثير من المظاهرات الكبرى حول المملكة. زرع فكرة الحل البديل عن طريق تبديل الأسماء هو حل لا يبتعد كثيرا عن العقلية الأمريكية في الإبقاء على المملكة بدورها الوظيفي والاحتفاظ بالأردن في الجعبة الأمريكية وتخدير الوضع الداخلي لسنوات طويلة قادمة أملا في "الجديد القادم".

بغض النظر عن ما هو قادم، ما سقط فعليا في عيون الناس هو نهج القيادة والكوارث التي جلبتها للبلد، -النهج- وليس الشخص هو ما يجب تغييره، التعدي على شؤون الأردن الداخلية لا يمكنني قبوله من أي كان، والارتهان للخارجي الذي أفقدنا جل شعورنا القومي وانتماءنا للمحيط العربي والإسلامي لا يمكن القبول بعلاجه عن طريق حلّ خارجي مهما كانت المبررات، عقد اجتماعي جديد نحفظ فيه حقوقنا ونرسم "للجميع" حدوده ونوضح فيه بكل صراحة أن "من يحكم يُسأل".
مشاكلنا نحلها بأيدينا...لسنا بحاجة إلى الأجنبي..ومتى دخل الأجنبي دخلت الفتنة. 

Friday, November 16, 2012

في قلب العاصفة

النظام ...
شعور غريب، هل كان يجب أن تصل الأمور إلى هذا الحد؟ لماذا؟ هل هم وهو بهذه الدرجة من الغباء؟ كل هذا كان يدور في خَلَدي وأنا بين الشباب الغاضب المخنوق من الوضع القائم والغاز المسيل للدموع في جبل الحسين بعد دفعنا من قبل قوات الدرك من مشارف دوار الداخلية يوم الخميس الأربعاء الماضي ... "يسقط يسقط عبدالله" كانت تدوي بين البنايات بشكل مخيف ... أحيانا أستشعر بعمق أنه وللحظات الدولة بنظام حكمها هو المؤجج الرئيس للشارع...لم تفلح محاولات الحراكات والأحزاب في تأليب الشارع كما نجحت به منظومة الحكم في هذا البلد ..غالب  الوجوه لا أعرفها متوسط الأعمار لا يتجاوز الخمسة والعشرين عاما .. غضب شديد وخوف اشد من مسقبل غامض ينتظرنا ...

لم أكن قط مع كل الهتاف المنادي باسقاط النظام ... الكثير شعرت برغبته الشديدة في ترديده من باب النكاية أحيانا أو التقليد في الأغلب  قليل جدا هم اولئك المؤمنون به حقا... لكن الهتاف ضد الملك عبدالله الثاني كان يأتي من الصميم... الشعور العارم الخيانة والابتسامات من نوافذ البيوت عند التذكير بما يشاع عن الملك من مثالب تعطي الكثير من المعاني عن الوعي المخفي لدى الكثير من الأردنيين عمّا يحصل حقا خلف أبواب القصر ... برغم الكثير من قناعاتي اخترت أن لا أهتف بإسقاط الملك... مراقبة المشهد العام بالنسبة لي تحتاج الكثير من التركيز الذي كنت بالكاد أحافظ عليه وسط الغاز والجري أمام الدرك والهروب من حافلة الاعتقال ...

من باب ال"تخبيص"القول بأن الشارع يريد اسقاط النظام..الشارع يريد لقمة العيش الكريمة..الشارع لم يابه بكل المناكفة والانحدار السياسي خلال عامين لكنه اهتز وبقوة جرّاء ما يجري على مائدة الطعام التي تصغر باستمرار...ومن باب المراهقة كل هذا التركيز على هتافات اسقاط الوضع السياسي القائم التي تنفر غالب الناس وتدفع بهم للابتعاد عما يجري بدلا من جذبهم عبر الهتاف المنادي بلقمة العيش الكريمة...

الدم ...
الغضب العارم التي اجتاح البلد مساء يوم الثلاثاء نتيجة لرفع أسعار المحروقات لم اشاهده قط..الرغبة في عقاب المسؤول عن هذا المآل كان الغالب...يوم الأربعاء انفجر الشارع بالكامل..المضحك المبكي المؤلم أن مناطق العشائر حول الممكلة هي من شهدت بشكل أو بآخر "العنف" وال"تخريب" ... دولة زرعت الفرقة وأججت الولاءات العشائرية منذ عام 1999 من قمة الغباء أن لا ترى أن الدم سيأتي من حيث تكون الثقافة الوطنية في أدنى مستوى مقارنة بالشعور الوطني العام عدى عن المدسوسين من قبل الأجهزة الأمنية الذين سأتكلم عنهم لاحقا ...في المقابل حافظت عمان واربد على نهج الاحتجاج السلمي بالرغم من كل الاعتقال والقمع .. الزرقاء دخلت على خط الاحتجاج في مؤشر خطير جدا على خسارة الطبقة الوسطى التي تمثل مثاليتها في الأردن ..

خبر مقتل أول شباب البلد ليل الاربعاء شكّل كارثة بالنسبة لي ... لحقه بدقائق خبر اصابة أحد أفراد قوات الدرك بالرصاص في منطقة عشائرية ..الدم في مجتمع مثل مجتمعنا لا يمكن احتماله ... طبعا الرواية الرسمية لمقتل الشاب أثناء اقتحامه بالسلاح لمركز أمني بالنسبة لي هي نموذج للهراء الرسمي ... وفي مجتمع مثل مجتمعنا وكما عهدنا من تصريحات السلطة فهي آخر ما يمكن الوثوق به حتى بما يتعلق بحالة الطقس ...

التدليس...
لا يمكنني أن أتوقع من جهاز أمن يتربع على رأسه شخص مثل حسين المجالي إلا ما رأيته وسمعته..شخص بعنجهية المجالي وتاريخه المتواصل من الأردن للبحرين في خلق مؤسسات الخوف تجعل كل ما يتفوه به متوقع تماما ... الكذب هو كلمة لطيفة جدا لوصف التصريحات التي خرج علينا بها جهاز الأمن العام والتدليس ربما تكون أكثر مناسبة لما يحدث ...

وصف كل حالة شغب بأنها منسوبة لناشطي الحراك السياسي هو قمة الدناءة...لماذا كانت الحالة السلمية الكاملة من التحرك الشعبي خلال الأيام الأربعة الماضية متركزة في المناطق التي شهدت نشاطات الحراك خلال السنتين الماضييتين؟ لماذا يتركز العنف في المناطق العشائرية؟ لماذا تجد في نفس المنطقة احتجاجا سلميا يرافقه على مسافة قريبة مجموعة تقوم بالنهب والتخريب والإحراق؟ لماذا تم اغفال مجموعات الزعران التي تهجمت على الاعتصامات السلمية في اربد بالسلاح الأبيض بعد فشل الدرك في فض الاعتصام السلمي في ميدات وصفي التل بإربد؟ 

مجتمع تحرك بكل ما فيه من جمال وقبح ... رزان وهيجان...يتوقع منه كل شئ بعد افراغ الجيوب المثقوبة اصلا، لكن ميليشات الروؤس الكبار التي رأيناها في أكثر من مناسبة خلال سنوات قبل ابتداء الحراك الشعبي واثناءه لم يتم حتى التلميح لها ... الكل يعلم أنه في أوقات الأزمة تنشط المجموعات الإجرامية...لكن وكعادة أنظمتنا العربية التي تشترك بنفس مشيمة السقوط الأخلاقي يتم وصف كل مجرم بأنه حراكي ...

في الداخلية وبعد دفعنا من قوات الدرك نحو الحسيني وتحت وطأة القمع الغير مبرر والغاز الذي خنق الجميع، بدأ بعض الشباب برمي الحجارة، طبعا تم الضرب على أيديهم ولكن ليس من قبل الدرك ولكن من قبل بقية العاقلين داخل التظاهرة ... مشاهد مشرفة تكررت تجاه بعض "الغرباء" الذين حاولوا اما خلع عمود من الرصيف أو اتلاف شجرة  ... اعتقد ان القمع الذي تلقوه من جانب المتظاهرين كان على وشك أن يقارب مستوى القمع الذي شهدناه من قوات الدرك الا أنه كان ينقصنا الغاز ... لماذا لم تتعرض أي سيارة للتخريب؟ لماذا لم يتم كسر نوافذ أي محل علما أنها كانت كلها مفتوحة ذلك الوقت؟ البارحة وفي شارع الأردن دورية شرطة دخلت من منتصف التظاهرة ولم يتم التعرض لها ولو بكلمة ... ألا يدعو ذلك للفخر والذكرأكثر من حالات التخريب ذات المنبت المشكوك بأصله ...

أين الملك؟
في عين الإعصار..وفي ظل أسوأ أزمة يتلقاها الأردن خلال فترة حكمه... يختفي الملك...أنا اؤمن أن الأردن مر بظروف أصعب على العائلة الحاكمة مما يحدث اليوم..اتساءل عن شعوره وهو يسمع اسمه يتردد على جدران عمان وجدران ديوانه بصورة مخالفة لما عهده خلال عهده الميمون..... الملك لم أرغب بلقاءه إلا مرة واحدة  قبل شهور...اليوم أتمنى لقاءه لأسمع منه وأحكي له الكثير...لكن الأغلب أن ما ساقوله لن يعجبه.

Monday, November 5, 2012

الزينكو

الواح الزينكو مظهر شديد الارتباط بالبيت الأردني البسيط وعموم البيوت العربية الفقيرة..هو سقف المساكين وغطاؤهم من دموع السماء وتورّد خدود الشمس..هو آخر خط دفاعي للسترة من الغريب .. هو ذلك الفرد من العائلة الذي قد يزعج البقية بعليّ صوته -حين الكرب- لكنهم يعذرونه فهو على ما يبدو يقوم بالمهمة على أكمل وجه ولا يعبئ بتذمر هذا أو تلك... يعينه على الوقوف في مكانه قليل من اللحام وفي بعض الأحيان قطع من "بلوك البناء" الموزع بعشوائية على سطحه الخارجي

المطر جميل خصوصا عندما يأتي على غفلة...الزينكو جهاز الانذار المبكر "لست اليت" لحماية الغسيل من البلل..وبشرى أمل ل"بير الدار" بتعبئة مجانية سماوية تبث شيئا من الرطوبة في شرايين العطشى .. وخطوط الماء المتسربة من حوافّه تصنع "برداية" من اللؤلؤ على باب الحوش ...

هنالك ما يعرف بال"مضخمات" في الأجهزة الكهربائية...مضخمات صوتية ومضخمات إشارة وغيرها..بالنسبة لي الزينكو هو "مضخّم الأمل" الخاص جدا..حقيقة منذ طفولتي كنا نتقافز على الشبابيك عندما نسمع تلك الموسيقى التي تبدأ بالانهمار من لوح الزينكو في حوش الجيران..منظر المطر في مدينة جافّة مثل الزرقاء هو مدعاة للاحتفال...كان الصوت عاليا في بعض الأحيان فنتخيل أن الدنيا "مزاريب" لكن نتفاجئ أن الحقيقة أن لوح الزينكو ضخّم صوت المطر بطريقة مخالفة حقيقة الواقع يصيب البعض الإحباط لكني مسرور بالمجمل ..شوية أمل ما بتضر..

موسيقى قرع المطر تتوافق بشكل غريب مع ما يجول في خَلَد الشخص..تسمعه في بعض الأحيان حزينا وأخرى متذمرا .. أحيانا كلحن رومانسي وأحيانا أخرى كقرع طبول الحرب..

البارحة عند منتصف الليل أطفأت الحاسوب وجلست أستمع إلى القرع الغائب منذ زمن على شرفة البيت...أطفأت الأضواء..خرجت قليلا لأبتل..عدت إلى فراشي وكان أصوات جميلة ترنّ في رأسي قائلة
أمل ... أمل ... أمل

المشكلة أن "صاحب عمارة" أزال طوب البناء من فوق البلوك وأنا أخشى جدا من الريح القادمة أن تذهب بالزينكو وتذهب بنا معه ...