كان من المؤسف جداً أن لا تتطرق أي من "التعديلات الدستورية" التي تم إقرارها مؤخرا من قريب ولا من بعيد إلى ما يمكن تسميته إصطلاحا الهوية الوطنية الأردنية في هذا الوقت بالذات الذي قد نكون فيه بأمس الحاجة إلى وضع بعض الحدود للبراغماتية الزائفة التي تحكم تعاملاتنا وعلاقاتنا داخل النسيج الوطني وتمنعنا من خوض السؤال الأصعب: من هو الأردني؟
إذا كانت الحساسية المفرطة لمكونات الجتمع الأردني المختلفة دفعت وتدفع بالجميع نحو تحاشي الخوض في هذا الموضوع عدى عن التطرق له قانونيا ودستوريا, فإن الوضع السياسي الراهن والتوجهات السياسية الإسرائيلية التي لم تعد تخجل من طرح حل "الأردن هو فلسطين" بل إننا بالكاد نجد حاليا أي من "الجيران" في المعسكر الإسرائيلي من ينظر إلى الأردن ككيان قائم بذاته حيث أن الجدل الدائر إسرائيليا يتراوح الآن ما بين "الأردن هو فلسطين" و "الأردن هو إسرائيل". في هذه الظروف يجب على الأردنيين والفلسطينين أن يعوا أن مسألة تحديد وتثبيت الهوية والشخصية الوطنية لكل من الشعبين قد تكون مسألة بقاء مصيرية في حال تدهورت الأوضاع أكثر في المنطقة ولسد الباب أمام أي محاولة صهيونية لبناء حقيقة جديدة تتوافق مع مخططاتهم حول الحل للتخلص من مشكلة السكان الأصليين لأرض فلسطين التاريخية ولا شك أن أطماع التوسع الجغرافي عند الإسرائيلي لا زالت قائمة ومشكلة ملكيات الوكالة اليهودية في الأردن هي قنبلة موقوتة تنتظر فقط الموعد المناسب لتفجير الوضع السياسي في المنطقة بكامله.
إن أكبر خطر يواجهه الأردنييون حاليا هو هم أنفسهم، فحالة من الغياب شبه التام لأي حس وطني يقوم على أن مصلحة الوطن فوق الجميع بين كافة النخب السياسية وحتى بين عامّة الشعب. فالولاءات الضيقة التي ظهرت على الساحة من فترة ليست ببعيدة للقبيلة والعشيرة والعرق وبلد المنبت تدفع بالمجتمع الأردني إلى ما لا أستطيع وصفه إلا بالحرب الأهلية مع وقف التنفيذ. ولا أعني هنا بكل وضوح فقط الإشكال الأكبر (الأردني الفلسطيني) بل يتعدّى ذلك إلى نزاعات لا تقل خطورة بين القبائل الأردنية في مختلف مناطق الممكلة على قضاياً لا يمكن وصفها إلا بالمخجلة والتي تعود بالمملكة إلى النزعة التي سادت أراضيها في نهايات الزمن العثماني.
إن وجود أغلبية حالية ذات أصول فلسطينية تكوّن ما يزيد على 56% من المكون السكّاني الأردني يفرض واقعا يجب تفهّمه والتعامل معه بطريقة تحفظ للجميع كرامته وحقوقه ساهم الجميع في بناءه والنهوض به، كما يضمن في الوقت نفسه حفظ الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه وهويّته. لكن أيضاً في خضم الدفاع عن القضية الفلسطينية يتضائل للأسف حجم الإهتمام بالهوية الأردنية والمكون الثقافي الأردني والتوثيق للشخصية الأردنية المتعددة المشارب مما يولد شعوراً بالغبن عند العنصر الشرق أردني عن كون اعتباره واعتبار أرض المملكة عائلاً للعناصر الجديدة المهاجرة. كما أن ضبابية الأفق وانعدام الرؤية في كل ما يخص القضية الفلسطينية فإن الواقع الجديد القديم للعنصر الفلسطيني في كون الأردن دار مقر لا دار زيارة أصبح يفرض نفسه أكثر وأكثر دافعا الجميع لإعادة الحسابات حول ما يتعلق بالمشاركة بالعملية السياسية في المملكة. وحتى لو فرضنا جدلاً انفراجاً تحدثه معجزة في القضية الفلسطينية فإنه ومن المرفوض ومن غير المنطقي المطالبه برحيل أي عنصر من عناصر المجتمع الأردني الحاملين لجنسيته تحت أي ظرف من الظروف. لكن هذا يعيدنا إلى المربع الأول فبما أننا جميعا نعرف من هو الفلسطيني إذاً من هو الأردني؟
غياب التعريف القانوني والدستور لهذه المسألة جعلها مجالاً للتعريف والتأويل، وأثيرت هذه العاصفة مجدداً بعد مقالة الكاتب عريب الرنتاوي الأخيرة (من أي إناء ينضح هؤلاء الإصلاحيون) والتي اعتبر بعض ما ورد فيها الكثير من الشخصيات الأردنية المعارضة إساءة كبرى, كما زاد من تفاقم الوضع تسريبات ويكيليكس التي تمت ترجمتها ونشرها بانتقائية ملفتة للنظر والتي تتحدث عن حوارات ما بين مسؤولين أردنيين بارزين من أصول فلسطينية ومسؤولين أمريكيين والتي دار جلّها حول الحقوق السياسية المهضومة للعنصر الفلسطيني في الحياة السياسية الأردنية. كذلك الأمر حول طلب الإعتراف بالدولة الفلسطينية الجديدة وما يتأتى عليه من ضياع لحقوق اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في الأردن.
ترتبط مسألة تعريف الهوية الوطنية بشكل جذري بمسألة كبرى أخرى وهي دسترة فك الإرتباط مع الضفة الغربية, كان خطاب فك الإرتباط الذي ألقاه الملك حسين واضحاً جدا: فك الإرتباط لا يعني بأي حال خسارة الأردنيين من أصول فلسطينية ويعيشون على أرض المملكة لحقوقهم ومواطنتهم. لكن العقدة في هذه المسألة كون هذا القرار لم يأت لحد الآن مدعما بقانون أو دستور بل هو في حد ذاته مناقض للدستور الذي ينص على أن المملكة لا ينزل عن ملكها شئ ولم يعد عن كونه قرارا ملكيا لم يدعم لاحقا بتشريع. حالات سحب الجنسية من بعض المواطنين الأردنيين والتي أثارت كثيرا من الجدل حول قانونيتها وربطها بقرار فك الإرتباط سحبت الإضواء من حالات التجنيس التي تثير الكثير من اللغط حولها وعن كونها مرحلة أخرى لثتبيت حل الوطن البديل. ترك هذا الموضوع بدون تعريف ذو مصداقية فتح المجال للكل للتأويل. الجنرال علي الحباشنة يعتبر ممن وصفوا بقيادات الليكود الشرقي يرى أن الأردنيين هم فقط من بايع الملك عبدالله الأول عام 1921 ولا يحق لغيرهم الكلام، ناهض حتر السياسي والكاتب الأردني المعروف يرى في كل من وجد قبل فك الإرتباط على أراضي الضفة الشرقية هو أردني له كامل الحقوق والواجبات، الإخوان المسلمون وتداخلهم مع حركات الداخل الفلسطيني من منطلق ايدولوجي يرفضون الفصل بين ضفتي النهر ولا زالت علامات التداخل في نقابة المهندسين بين أبناء الضفتين شاهدا على هذا التشوه البيروقراطي في رسم حدود الوطن والمواطنة.
الثقب الأسود، هي ما وُصِفت به الحالة الداخلية الأردنية متمثلةً بعدم ترسيم العلاقات الداخلية وتعريف العلاقة الأردنية-الفلسطينية في شقها الإقليمي. فترك الأمور معلقةً والانقضاض على أي صوت يدعو إلى فك الاشتباك في الهوية هي الوصف الأمثل لما يجري عند طرح تعريف الهوية الاردنية. ففي النسخة الأخيرة من نقاشات علامة المربع التي أدارها موقع حبر طرحت السؤال وكغيري لم أجد إجابة على ما سألت لكن شد انتباهي رد النائبة عبلة أبو علبة حول الموضوع وترديد الحضور لما قالت عندما صبغت أي دعوة تحديد الهوية الاردنية بالإقليمية وكون هذه القضية إنسانية بحتة وتسييسها عبارة عن قنبلة موقوتة. لماذا كل هذا الخوف من هذه الدعوة وهل سنكون أكثر سروراً عندما يدفع الإسرائيلي وبكل قوة تجاه شطب القضية الفلسطينية برمتها على حساب الأردن؟ أذكر حجة إسرائيلية انتزعت المعنى التضامني من مقولة للملك عبدالله الأول عندما قال بأن "الأردن هو فلسطين وفلسطين هي الأردن" ووصفتها بأنها الدليل على شرعية الدعوة لترحيل الفلسطينيين نحو "بلدهم" في ضفة النهر الشرقية فإذا كان إقتباسٌ بهذا الوضوح تم تحويله بهذا الصورة البشعة فما بالنا بكل ما نكتب ونناقش به ويسجل علينا؟ نحن أصحاب قضية عادلة بامتياز لكن عدم توثيق هويتنا الوطنية والأخذ بالمسلمات كحجج شفهية يدفع بنا نحو خسارة ما كل نملك الآن وفرض تصفيات لا يمكن وصفها إلا بكونها الكابوس الأكثر ظلاماً والذي ندفع حاليّا كلنا باتجاهه.